خلف التصريحات القوية التي أدلت بها الولايات المتحدة مؤخراً في السياسة الأوروبية تكمن حالة من عدم الارتياح ليس فقط في القارة، بل وأيضاً إشارات إلى تحولات حاسمة على نطاق عالمي.
تعيش أميركا الآن "ثورة" شاملة في عهد دونالد ترامب 2.0. (المصدر: جيتي) |
على مدى الأيام الثلاثة الماضية، شهدت أوروبا صدمات سياسية متتالية مع إصدار الولايات المتحدة تصريحات قوية: أعلنت إدارة ترامب عن مفاوضات مباشرة مع روسيا بشأن أوكرانيا، وانتقد نائب الرئيس جيه دي فانس الطريقة التي تعامل بها أوروبا مواطنيها بشكل صحيح في ميونيخ، وأكد وزير الدفاع بيتر هيجسيث أن أوروبا يجب أن تهتم بأمنها... هذه التطورات ليست سوى "مقدمة"، تشير إلى تغيير عميق في الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، وإعادة تشكيل علاقات التحالف وإقامة نظام عالمي جديد.
إن الولايات المتحدة تعيش "ثورة" شاملة في عهد الرئيس دونالد ترامب ــ وهو تحول دراماتيكي ليس فقط في السياسة الداخلية، بل أيضا في الاستراتيجية العالمية. إن هذا ليس مجرد تعديل بسيط في السياسة، بل هو إعادة هيكلة منهجية ومتعمدة من جانب إدارة ترامب، تهدف إلى القضاء على العوامل التي ــ وفقا لتفكيرهم الجديد ــ أعاقت أميركا لعقود من الزمن: الدين العام المتزايد، والبيروقراطية الراكدة، واللوائح الصارمة التي تخنق الابتكار، ونظام السياسة الخارجية الذي لم يعد يخدم المصالح الأساسية للبلاد.
وفي الوقت نفسه، تغير العالم. تتزايد قوة الصين بشكل قوي، مما يشكل تحديًا لدور القيادة العالمية للولايات المتحدة على جميع الجبهات، بدءًا من الاقتصاد والتكنولوجيا والجيش وحتى النفوذ السياسي. ماذا عن أوروبا؟ لا تزال القارة العجوز عالقة في عقليتها القديمة، عاجزة عن التكيف مع واقع جديد يتمثل في أن النظام العالمي الذي عرفته ذات يوم لم يعد موجودا. لا يناقش هذا المقال ما هو صحيح أو خاطئ أو جيد أو سيئ في هذه السياسة، بل يحاول رسم صورة حقيقية لما يحدث في الواقع للحصول على رؤية موضوعية وشاملة قدر الإمكان.
إن أميركا ترامب لا تريد فقط الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى، بل أيضا تشكيل و"تجديد" نفسها لمواجهة أعظم تحديات القرن الحادي والعشرين. إن واشنطن تفهم الأمر بوضوح: من أجل الفوز بهذه المنافسة الاستراتيجية، يتعين على الولايات المتحدة أن تكون أقوى، وأكثر استباقية، وأكثر مرونة.
ولكن الأهم من ذلك هو أن أميركا في عهد ترامب 2.0 لا يتم إعادة هيكلتها على أساس المصالح الاقتصادية والأمنية فحسب، بل أيضا على أسس أيديولوجية محافظة. وهذا يدفع الولايات المتحدة إلى إعادة تعريف الأصدقاء والأعداء وفقاً لمعايير جديدة. إذا كانت الولايات المتحدة في الماضي تعطي الأولوية للتعاون مع حلفائها الغربيين على أساس التاريخ والمؤسسات المشتركة، فإن العوامل الأيديولوجية المحافظة تلعب اليوم دورا متزايد الأهمية في الاستراتيجية الدبلوماسية لواشنطن.
تغيير التفكير بشأن الأصدقاء والأعداء والعولمة الجديدة
على مدى عقود من الزمن، لعبت الولايات المتحدة دور الحارس للمؤسسات العالمية، وهو النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والدول الغربية، وبالتالي فهي "مستعدة" لوضع الصالح العام فوق مصالحها الخاصة. لكن أميركا في ظل صاحب البيت الأبيض السابع والأربعين طرحت السؤال التالي: هل هذا النموذج لا يزال مناسباً في السياق الحالي، أم أنه يضعف أميركا نفسها؟
والإجابة الواضحة هي أن أميركا تحتاج إلى نموذج جديد، نموذج لا يتخلى عن مكانتها كقوة عظمى، ولكنه لا يقبل أيضا مسؤوليات غير ضرورية.
التحالفات لم تعد هي الخيار الافتراضي. لم تعد أميركا تجمع الحلفاء على أساس التاريخ، بل على أساس معايير من يستطيع المساهمة حقا في الصالح العام، سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري أو الأيديولوجي.
وفيما يتعلق بإعادة هيكلة حلف شمال الأطلسي والعلاقات الأمنية، لم يعد الحلفاء، وخاصة الأوروبيون منهم، يتمتعون برعاية غير مشروطة. وسوف يضطرون إلى إثبات دورهم في النظام الجديد، وإلا فإن الولايات المتحدة ستبحث عن شركاء آخرين أكثر ملاءمة.
توسيع النفوذ الأميركي في اتجاه أكثر مرونة. إذا كانت الولايات المتحدة تركز في السابق على المؤسسات المتعددة الأطراف مثل الاتحاد الأوروبي أو منظمة التجارة العالمية، فإن واشنطن تعطي الآن الأولوية للتعاون الثنائي، حيث يمكنها ضمان قدر أكبر من الكفاءة وتجنب القيود السياسية غير الضرورية.
ويضع هذا التغيير أوروبا في موقف دفاعي. ولم تعد الولايات المتحدة تنظر إلى أوروبا باعتبارها "شقيقاً" أيديولوجياً كما كانت من قبل، بل باعتبارها كياناً منفصلاً تهيمن عليه التطرف، ومن غير المرجح أن يقدم مساهمة حقيقية للاستراتيجية الأميركية الجديدة. إن ألمانيا وبريطانيا وفرنسا ــ ثلاث دول رئيسية حليفة للولايات المتحدة ــ أصبحت الآن تحت قيادة أحزاب يسارية أو متأثرة بشدة بالتطرف. في هذه الأثناء، يرى السيد ترامب والمحافظون الأميركيون العالم من خلال عدسة مختلفة: فالأيديولوجية المحافظة هي الركيزة الأساسية لتحديد الشركاء الاستراتيجيين.
إن مبدأ "كل الطرق تؤدي إلى بكين" يسيطر على كافة السياسات والاستراتيجيات الداخلية والخارجية لواشنطن. (المصدر: سي إن إن) |
إعادة هيكلة الاقتصاد ليصبح أقوى وأكثر استباقية وأقل اعتمادًا
في عهد ترامب 2.0، يخضع الاقتصاد الأميركي لعملية إعادة هيكلة شاملة بهدف زيادة القوة الداخلية وتقليل الاعتماد على الاقتصادات الأخرى. قررت الإدارة الجديدة أن القوة العظمى الحقيقية لا يمكنها الاعتماد على الموارد الخارجية، بل يجب أن تكون مكتفية ذاتيا وتسيطر على سلاسل التوريد العالمية.
ومن الأمور البارزة هنا سياسة التجارة غير القابلة للتنازل. كل الاتفاقيات التجارية، سواء مع الحلفاء أو المنافسين، مطروحة على الطاولة للمراجعة. وإذا لم تكن هذه الاتفاقيات تعود بالنفع المباشر على الولايات المتحدة، فسوف يتم تعديلها، أو إعادة التفاوض عليها، أو إنهاؤها. وتفرض الولايات المتحدة أيضًا رسومًا جمركية قوية على الدول التي تعتقد واشنطن أنها "تستغل" النظام التجاري الدولي.
ومن أجل حماية الصناعات الإستراتيجية، تدعو واشنطن إلى منع الشركات الأجنبية من الوصول إلى القطاعات الصناعية عالية التقنية والعسكرية في الولايات المتحدة. وتهدف هذه السياسات الحمائية إلى ضمان عدم خضوع القطاعات الرئيسية للاقتصاد الأميركي لسيطرة دول أجنبية.
تعمل الولايات المتحدة على تقليص اعتمادها على حلفائها التقليديين تدريجيا. لم تعد أوروبا شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه في الاستراتيجية الاقتصادية الأميركية. وقد وسعت واشنطن علاقاتها مع أسواق جديدة في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، مما أدى إلى إنشاء شبكة اقتصادية أكثر مرونة وأقل مخاطرة.
كل هذا يعكس عقلية اقتصادية محافظة، تعتمد على الذات، وأقل اعتمادا على الآخرين، وتضع المصالح الوطنية فوق كل اعتبار. تحاول أمريكا بناء اقتصاد ليس فقط أقوى بل وأكثر نشاطا في المنافسة العالمية على القوة.
الاستعداد للمواجهة الحاسمة - إعادة تشكيل مراكز القوة
إن القرن الحادي والعشرين لم يعد ساحة للمواجهة التقليدية بين الشرق والغرب، بل أصبح منافسة شرسة لتحديد من سيقود النظام العالمي الجديد.
وفي هذا السياق، لا تعد الولايات المتحدة قوة دفاعية فحسب، بل إنها تعمل أيضاً على صياغة قواعد اللعبة بشكل نشط. الولايات المتحدة تعيد تعريف علاقتها مع روسيا. وبدلاً من النظر إلى موسكو باعتبارها منافساً تقليدياً، أصبحت واشنطن تنظر الآن إلى روسيا باعتبارها شريكاً استراتيجياً لتحقيق التوازن في مواجهة صعود الصين. من خلال سياسة توسيع النفوذ في مجالات رئيسية، تعمل الولايات المتحدة على تعزيز مواقعها الاستراتيجية، بدءًا من زيادة السيطرة على قناة بنما إلى نية شراء جرينلاند، من أجل السيطرة بشكل أفضل على سلسلة التوريد العالمية.
تعمل الإدارة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب 2.0 على إعادة تعريف العلاقات مع روسيا. (المصدر: جيتي) |
تعمل واشنطن على حل الصراعات الإقليمية للتركيز على الهدف الرئيسي، وليس الانشغال بصراعات ثانوية. ولذلك تسعى الولايات المتحدة إلى تقليص التزاماتها في أوكرانيا وإيران والشرق الأوسط، لتركيز كل جهودها على المواجهة مع الصين.
على الرغم من عدم الإعلان عن ذلك علناً، فإن السياسة الأميركية في عهد دونالد ترامب 2.0 تهدف كلها إلى هدف واحد: إنشاء نظام تحالف جديد، وموقع استراتيجي مثالي لمساعدة واشنطن على التعامل بشكل أكثر فعالية مع ما يسمونه "التهديد" أو "المخاطرة" الأكبر والأكثر خطورة، وهو الصين. وبعبارة أخرى، تشكل الصين الهدف الشامل لجميع السياسات والاستراتيجيات الداخلية والخارجية لإدارة ترامب 2.0، فضلاً عن نهجها القائم على مبدأ "كل الطرق تؤدي إلى بكين".
***
في ظل إدارة دونالد ترامب 2.0، لا تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى فحسب، بل تسعى أيضًا إلى إعادة هيكلة نفسها لزيادة قوتها الداخلية والسيطرة على النظام العالمي. ومن خلال تعديل السياسات الاقتصادية والتجارية إلى الاستراتيجية الخارجية، تهدف واشنطن إلى تقليل الاعتماد، وتعزيز موقفها المستقل، وإقامة نظام تحالف جديد يرتكز على المصالح العملية بدلاً من القيود والأعباء التاريخية الماضية.
ولكن هذه العملية ليست سهلة. وفي الداخل، تواجه إدارة ترامب مقاومة شديدة من السياسيين ورجال الأعمال وحتى جماعات المصالح التي استفادت من النظام القديم. وعلى الساحة الدولية، لا يخفي حلفاء الولايات المتحدة التقليديون مثل الاتحاد الأوروبي وكندا واليابان شكوكهم بشأن الاتجاه الجديد الذي تسلكه الولايات المتحدة، في حين يستغل منافسون مثل الصين وروسيا الفرصة لتوسيع نفوذهم.
ولتحقيق هذه الطموحات، لا تحتاج واشنطن إلى التصميم والقوة والرؤية فحسب، بل تحتاج أيضاً إلى المرونة واستراتيجية طويلة الأجل لضمان عدم انحرافها عن أهدافها في عالم متقلب. واشنطن لا تنتظر أحداً، ولكن التأخير في اتخاذ القرار أو الفرص الضائعة سوف يكلف الحلفاء والأعداء غالياً.
[إعلان 2]
المصدر: https://baoquocte.vn/nuoc-my-duoi-thoi-donald-trump-20-cuoc-cach-mang-toan-dien-va-cong-cuoc-tai-cau-truc-quyen-luc-toan-cau-304495.html
تعليق (0)